هل بدأت حقبة البشر المعدلين وراثياً
كريسبر كاس 9 CRISPR/Cas9 تقنية جديدة تُمكن من التحكم بشكل غير مسبوق بشيفرة الحمض النووي (دي.ان.ايهDNA)،وقد أشعلت هذه التقنية شرارة ثورة في مجالات العلوم الجينية وبيولوجياالخلايا، حيث اصبحت اسماً علمياً مألوفاً لأنهاعززت آمال اكتشاف طرق جديدة من شأنها معالجة الأمراض المستعصية ومنها مرض السرطان، كماأنهااماطت اللثام عن معضلات أخرى تعاني منها الخلايا البشرية.
غير أن تقنية تغيير الجينات gene editing أو التلاعب بها قد أثارت كثيراً من المخاوف أيضاً، فهل بوسع الأدوات الجديدة أن تفسح المجال للوالدين من الحصول على (أطفال مصممين حسب الطلب)؟ وهل سيؤدي استخدامها على المرضى إلى عواقب خطرة غير متوقعة ومحتملة؟، هذه الاحتمالية التي قد تنتج عن إساءة الاستعمال دفعت علماء راسخين إلى الدعوة إلى وقف أنواع معينة من هذا المبحث الجديد حتى تُناقش بعض المسائل الأخلاقية،وتمثلت تلك الدعوة في حظر طوعي قوبل بتجاهل فوري في بعض النواحي.
يُعدالتعليق في هذاالسياق خطوة إيجابية نحو الحفاظ على ثقة العامة وسلامتهم، وبالوقت عينه يُمكن ذلك من دراسةالتقنية الجديدة الواعدة دراسة أكثر تعمقاً.
تقنية تغيير الجينات دي. ان. ايه. من اجل معالجة الأمراض:
بالرغم من أن معظم الأمراض الإنسانية يُعزى جزءً منها إلى طفرات في الجينات الوراثية، بيد أن هناك علاجات تعالج أعراض هذه الطفرات، لكنها تعجز عن معالجة الجينات الجذرية المسببة لهذه المشكلة. وعلى سبيل المثال، يحدث مرض التليف الكيسي cystic fibrosis الذي يؤدي إلى امتلاء الرئتين بمخاط زائد بسبب طفرة جينية واحدة في الحمض النووي (دي.ان.ايه.) ونجد أن أنواع علاج التليف الكيسي تركز على الأعراض، فهي تعمل على خفض كمية المخاط في الرئتين ومحاربة أنواع العدوى، عوضاً عن تصحيح الطفرة عينها، ويعود ذلك إلى أن إجراء تغييرات دقيقة على ثلاثة مليارات شيفرة جينية يظل تحدياًصعباً حتى باستعمال طبق بتري المخبري Petri dish،فضلاً عن أن هذا أمرٌ غير مسبوق لدى المرضى الأحياء، (هنالك مثال وحيد في الوقت الحالي لعلاج الجينات يُدعى جليبيرا Glybera،وهو لا ينطوي على تعديل الحمض النووي للمريض، وقد تمت الموافقة على استعماله بشكل مقيد في أوروبا لمعالجة المرضى الذين يعانون من اضطرابات هضمية).
لكن كل هذا تغير بحلول العام 2012 حيث برهنت عدة مجموعات بحثية أن تقنية قطع الحمض النووي التي تدعى كريسبر كاس بإمكانها العمل على الحمض النووي للإنسان. وبمقارنة هذه التقنية مع سابقاتها من الطرق غير المكتملة لتغيير الحمض النووي، فإن تقنية كريسبر كاس تمنح طريقاً موجزاًللغاية، حيث تشبه آلية عمل هذه التقنية عمل زوجين من المقصات الجينية للحمض النووي والتي بإمكانها أن تقطع في الأماكن المطلوبة عبر شريط خاص من الحَمْضُ النَّوَوِيِّ الرِّيبِي آر.ان.ايهRNA وهو رابط كيميائي وثيق للحامض النووي دي.ان. ايه.وبإمكان تقنية قطع الحمض النووي دي. ان. ايه.أن تحيي عملية إصلاح الحمض النووي،والتي قد يتم اختطافهاإما لتعطيل جين معين، ولنقل الجين الذي يسمح بنمو الخلايا السرطانية بدون التحكم بها، أو تثبيت أي جين متضرر، مثل الطفرة التي تُسبب التليف الكيسي. ويتميز نظام كاس 9 عن سابقاته من تقنيات تعديل الجينوم البشري في قدرته العالية على الاستهداف بدقة وسهولة التنقل إلى أي سلسلة معينة للحمض النووي عبر استعمال دليل الحمض النووي الريبي، والذي ساهم إلى حد كبير في الاعتماد السريع لهذه التقنية في الوسط العلمي. ويبدو أن الحاجز أمام تثبيت الحمض النووي للخلايا المريضة قد زال.
اللعب بالنار:
مع تطور هذه التقنية تتهاوى عوائق تعديل الجينات في المراحل الجينية الأولى (المضغة)، وهذا يفتح الباب على مصراعيه لما يُطلق عليه مصطلح (أطفال مصممين حسب الطلب) بحيث يتمتعون بذكاء أو مظهر معدل. وقد كان علماءالأخلاق يخشون دائماً وابداً عواقب السماح للآباء بإختيار سمات أطفالهم، كما أن هناك فجوة كبيرة بين فهم المرض والجينات التي تسببه، وحتى إن توفرت المقدرةعلى أداء جراحة جينية بدون أي مشاكل،إلا أنه لا يعرف حتى الآن كيف سيظهر التغيير المعين على الحمض النووي لدى الإنسان،وأخيراً فإن تعديل خلايا الخط الجرثومي مثل المضغ الجنينية قد يؤدي إلى استقدام حمض نووي معدل بشكل دائم إلى مستودع الجينات الذي سترثه الأحفاد.
إضافةً إلى ذلك، فإن إجراء قطوع في شيفرة الحمض النووي لأي إنسان لا يمكن أن يمر بدون أي مخاطر،لكن من المعروف أن كاس 9(بروتين القطع) يلتصق بالحمض النووي في مواقع غير مستهدفة من الجينوم. وإن حدث وان قام (كاس 9)بأي عملية قص خاطئة لأي جين هام وعطله، فهذا قد يسبب مرض السرطان عوضاً عن علاجه.
التمهل وعدم التسرع:
تسببت جميع المخاوف التي اثيرت حول تقنية كاس 9 بوقوع حادثة غير مستحبة على الإطلاق، ألا وهي الدعوة من بعض العلماء المشهورين إلى إيقاف أجزاء من هذا البحث، ففي شهر مارس عام 2015، دعت مجموعة من الباحثين والمحامين إلى إجراء إيقاف طوعي لأي استعمال إضافي لتقنية كريسبر على خلايا الخط الجرثومي إلى حين إعداد وإقرار الإرشادات والضوابط الأخلاقية في هذا السياق.
وأشارت مجموعة تضم اثنين من الحائزين على جائزة نوبل، ومستثمرين لتقنية كريسبر من خلال مقالاتها في مجلةالعلوم أنه لم نفهم بعد الرابط بين صحتنا وسلسلة الحمض النووي الخاص بنا فهماً كافياً، وحتى لو وجد نظام دقيق للغاية لتغيير شيفرة الحمض النووي، فما تزال تقنية كاس 9 غير جاهزة حتى الآن، وما يزال من المبكر معالجة المرضى من خلال الجراحة الجينية. وقد انكر المؤلفون هذه التقنية من ناحية تغير الجينوم فقط في أنواع خلايا محددة مثل المرحلة الجينية المبكرة، لكن في الوقت عينه يشجعون البحث الرئيسي الذي سيضع التغيير العلاجي المستقبلي على أساس أكثر رسوخاً.
المضي قدماً:
على الرغم من دعوة إيقاف كريسبر كاس 9،إلا أن مجموعة بحثية صينية قدمت تقاريرها حول محاولاتهالإجراء تعديلات في المراحل الجينية المبكرة لدى الإنسان خلال شهرين من تلك الدعوة، وحسب وصف مجلة البروتين والخلايا، عالج المؤلفون المضغ الجنينية غير القابلة للحياة لكي تقوم بمعالجة الطفرة الجينية التي تسبب مرض الدم الثَلاَسيمِيَّا Thalassemia.
وقد برهنت نتائج الدراسة مخاوف المجموعة العلمية، واثبتت أنها بنيت على أساس راسخ وقوي، وقد قتل العلاج مايُقارب واحداً من خمس مضغ،وقد نجا فقط نصف الخلايا التي عُدل حمضها النووي. ومن بين الخلايا التي عُدلت، تم إصلاح جزء فقط ممن يحمل طفرة مرضية،وكشفت الدراسة أيضاً التغيير غير الكامل والقطع غير المستهدف للحمض النووي ضمن جميع خلايا المضغةالواحدة، ومن الواضح أن أنواع الأخطاء هذه تسبب مشاكل في المضغ الجينية، وهذا يعني أنها ستنمو في جسم إنسان مكتمل النمو.
وخلص جورج دالي George Daley عالم الأحياء في جامعة هارفرد وعضو في المجموعة التي دعت إلى تعليق البحث الى أن (هذه الدراسة يجب أن تكون دقت ناقوس الخطر لأي طبيب يعتقد أن التقنية جاهزة للاختبار في سبيل استئصال جينات الأمراض).