الطريق إلى الشخصية صراع بين السيرة الذاتية والسيرة الأخلاقية
يقول مؤلف هذا الكتاب ديفيد بروكس David Brooks في المقدمة:" لقد ألفت هذا الكتاب دون أن أكون واثقاً من إمكانية متابعتي الطريق إلى الشخصية، ولكنني أردت على الأقل أن أعرف ماهية ذلك الطريق وكيف خطا عليه الآخرون" ثم يقول : "ولأكون صادقاً كتبت هذا الكتاب لإنقاذ روحي".
أصبح كتاب الطريق نحو الشخصية The Road To Characterالذي صدر في شهر نيسان 2015 ، من أكثر الكتب مبيعاً والتي تصدر عن نيويورك تايمز.
قراءة في الكتاب:
يقول بروكس : كنت أفكر مؤخرا بالفرق بين المزايا التي يتم ذكرها في السيرة الذاتية والمزايا التي يذكرها ويمدحنا بها الآخرون .
الأولى هي تلك التي ندرجها في ورقة السيرة الذاتية, أي المهارات التي نحملها إلى سوق العمل والتي تساهم في النجاح الخارجي. أما ميزات المديح فهي الأعمق، إنها تلك الميزات التي يذكرها الناس عنك،والموجودة في لب جوهرك سواء كنت لطيفاً، شجاعاً، أميناً أو صادقاً، والعلاقات التي بنيتها من خلال جوهرك الذاتي.
قد يقول معظمنا أن ميزات المديح أهم من ميزات السيرة الذاتية، ولكنني أعترف أنه وعلى مدى فترات طويلة من حياتي أمضيت الكثير من الوقت أفكر بالأخيرة أكثر من الأولى، فالحقيقة النظام التعليمي في العالم كله يتجه للتأكيد على مزايا السيرة الذاتية أكثر من المديح، وكذلك النقاشات العامة كالأفكار والنصائح حول تطوير الذات والتي نجدها في كبرى الصحف والمجلات وفي أكثر الكتب (غير الروائية) مبيعاً،مما جعل لدى الكثير منا خطط واضحة حول كيفية تحقيق النجاح في مجال المهنة أكثر من كيفية تطوير شخصية عميقة.
لقد ساعدني كتاب واحد في التفكير حول هاتين المجموعتين من الميزات، وهو بعنوان"رجل إيمان وحيد" للمؤلف جوزيف سولوفيتشك عام 1965، وقد لاحظ سولوفيتشك وجود نوعين من البشر، وهذين النوعين يمثلان الوجهين المتعاكسين في طبيعتنا. أطلق عليهما اسم (آدم 1) و (آدم 2).
إذا قمنا اليوم بتحديث تصنيف سولوفيتشك بعض الشيء، يمكننا أن نقول أن:
(آدم 1) هو الذي يوجه السيرة المهنية والجانب الطموح من طبيعتنا،إنه آدم الخارجي، آدم السيرة الذاتية، وهو يريد أن يبني ويبدع وينتج ويكتشف الأشياء، يريد أن يحتل موقعاً مرموقاً وأن يحرز الانتصارات.
أما (آدم 2) فهو آدم الداخلي الذي يريد أن يجسد ميزات أخلاقية معينة، وأن يكون ذو شخصية داخلية هادئة وصافية، وأن يكون لديه إحساس هادئ ولكن صلب يتمسك بقوة بالصح والخطأ، وليس القيام بفعل ماهو جيد فقط.
يريد (آدم 2) أن يحب بمودة ويضحي بذاته لخدمة الآخرين، وأن يعيش منسجماً مع ذاته والكون من حوله ، وأن يكون ذو روح داخلية متماسكة، ويحترم الإبداع ومقدرات المرء الخاصة.
في حين يرغب (آدم 1) بإخضاع العالم، يرغب (آدم 2) بإطاعة النداء من أجل خدمة العالم.
في حين أن (آدم 1) مبدع ويستمتع بإنجازاته، يتخلى (آدم 2) في بعض الأحيان عن موقعه ونجاحه الدنيوي في سبيل بعض الأهداف المقدسة.
في حين يتساءل (آدم 1) حول كيفية عمل الأشياء، يسأل (آدم 2) عن سبب وجودها وسبب وجودنا نحن.
يرغب (آدم1) بالمغامرة إلى الأمام، في حين أن (آدم 2) يريد العودة إلى جذوره والاستمتاع بدفء وجبه عائلية.
شعار (آدم1) هو "النجاح"، بينما يعيش (آدم 2) الحياة على أنها مسرحية أخلاقية وشعاره " الإحسان، المحبة، التحرر من الخطايا".
ويستطرد قائلاً : أننا نعيش ضمن تعاكس هذين الآدمين. لا يتوافق آدم الخارجي العظيم وآدم الداخلي المتواضع تماماً، إذ أننا نعلق دائماً في مواجهة الذات، مطلوب منا تحقيق الشخصيتين معاً، وعلينا امتلاك فن الحياة إلى الأبد ضمن الشد بين هاتين الطبيعتين.
إن الجزء الصعب من هذه المواجهة هو أن كلاً من (آدم 1) و (آدم 2) يعيش وفق منطق مختلف.
(آدم 1)وهو الخلاق والبناء والمكتشف يعيش وفق منطق منفعي مباشر، إنه منطقالاالاقتصادالمقدمات تفضي إلى النتائج، الجهد يقود إلى المكافأة، التمرين يصنع الكمال. يجب السعي وراء المصلحة الذاتية، ويجب زيادة المنفعة الشخصية إلى حدودها القصوى، يجب أن تؤثر في العالم.
أما (آدم 2) فيعيش وفق منطق عكسي، إنه منطق أخلاقي لا اقتصادي، عليك أن تعطي لكي تأخذ، عليك أن تستسلم لشيء ما خارج ذاتك لكي تكسب القوة فيها، عليك أن تتغلب على رغباتك لتصل إلى ما تتوق إليه، النجاح يفضي إلى أعظم فشل وهو الغرور، والفشل يؤدي إلى أعظم نجاح وهو التواضع والتعلم. عليك أن تنسى ذاتك لكي ترضيها، عليك أن تخسر ذاتك في سبيل اكتشافها.
من أجل تعزيز شخصية (آدم 1) فيك يجب أن تصقل قدراتك. ومن أجل تعزيز الصميم الأخلاقي في شخصية (آدم 2) فيك، يجب عليك أن تواجه نقاط ضعفك.
الحيوان العنيف:
نحن اليوم نعيش في مجتمع يغذي(آدم 1)ويتجاهل (آدم 2)،نعيش في مجتمع يدفعنا إلى التفكير في كيفية تحقيق سيرة مهنية عظيمة، ولكنه يترك العديد منا عاجزين عن معرفة طريقة تكريس الحياة الداخلية. إن التنافس للوصول إلى النجاح وكسب الإعجاب شرس إلى حد أنه يستهلكنا بالكامل، يدفعنا سوق العمل المستهلك لنعيش عبر حساب منفعي، ولتلبية رغباتنا، وفقدان النظر إلى الدور الأخلاقي الموجود في القرارات اليومية.
إن صخب الاتصالات السريعة والسطحية يجعل من الصعب علينا سماع الأصوات الهادئة المنبعثة من الأعماق،إننا نعيش في مجتمع يعلمنا الدعاية والإعلان عن أنفسنا، وتملك المهارات المطلوبة للنجاح، إلا أنه يعطي القليل من التشجيع للتواضع والتعاطف والمواجهة الصادقة مع الذات، وهي جميعها مطلوبة لبناء الشخصية.
إذا كنت (آدم 1) فقط ، فإنك ستتحول إلى حيوان عنيف، ومخلوق ماكر يعرف كيف يحافظ على نفسه، وخبير بممارسة اللعبة، ويحول الأشياء إلى لعبة. إذا كان ذلك كل ما لديك، وإذا كنت تنفق الكثير من وقتك لتعزيز قدراتك المهنية دون أن يكون لديك فكرة واضحة عن أساس معنى الحياة، إذاً أنت لا تعرف المكان الذي عليك تكريس مهاراتك فيه، وماهو أفضل وأعلى طريق للسيرة المهنية. تمر السنوات وتبقى أعماق ذاتك دون اكتشاف ودون تنظيم، أنت منشغل ولكن لديك قلق غامض بأن حياتك لم تحقق معناها وأهميتها التامة. تعيش بحالة ضجر دون أن تفهم سبباً له، غير محب أو غير متعلق بالأهداف الأخلاقية التي تعطي للحياة قيمتها. أنت تفتقر للمعايير الداخلية من أجل القيام بالتزامات غير مهزوزة. لم تطور الاستقرار الداخلي مطلقاً، وكذلك الكرامة التي يمكنها أن تصمد أمام الرفض الشعبي أو أمام ضربة قاصمة. تجد نفسك تقوم بأفعال يستحسنها الآخرون، سواء كانت صائبة بالنسبة لك أم لا. أنت تحكم بغباء على الآخرين، حسب إمكاناتهم وليس حسب ما يستحقون. ليس لديك خطة لبناء الشخصية، وبدون ذلك فإن حياتك الداخلية بل والخارجية أيضاً ستتحطم في النهاية إلى أشلاء.
هذا الكتاب حول (آدم 2) وكيف بنى بعض الأشخاص شخصية متماسكة، إنه حول اعتقاد واحد تبناه الناس عبر القرون لزرع الصلابة في ذاتهم وصقل قلب حكيم. ولأكون صادقاً كتبت هذا الكتاب لإنقاذ روحي.
لقد ولدت بطبيعة ذات موقف تجاه السطحية.أعمل الآن كناقد وصحافي. يدفع لي أجري لأكون متفاخراً ونرجسياً،ولأطلق آرائي دفعة واحدة،وكي أبدو واثقاً منها أكثر مما أنا عليه فعلاً، وكي أبدو أكثر ذكاء مما أنا عليه، وكي أبدو أفضل وجدير بالاعتماد أكثر مما أنا عليه.
يجب علي أن أعمل بجهد أكثر من معظم الناس لأتجنب حياة من السطحية الأنيقة، لقد أصبحت أكثر إدراكاً بأنني عشت، مثل الكثير من الأشخاص هذه الأيام، حياة ذات طموح أخلاقي غامض أرغب بأن أكون جيداً، وأن أخدم أهدافاً كبرى، في حين أنني أفتقر إلى مفردات أخلاقية واقعية، وإلى إدراك واضح حول كيفية أعيش حياة داخلية غنية، أو حتى معرفة واضحة حول كيفية بناء الشخصية وتحقيق العمق.
لقد اكتشفت أنه من دون التركيز الدقيق على جانب (آدم 2) من طبيعتنا، سيكون من السهل الانزلاق إلى اعتدال أخلاقي تقتنع به الذات. إنك تضع نفسك على منعطف التسامح. إنك تتبع رغباتك مهما كان الموقع الذي ستأخذك إليه، وتتوافق مع ذاتك طالما أنك لا تؤذي أحداً آخر بشكل واضح.
أنت تعتقد أنه إذا بدا لك أن الناس من حولك يحبونك، لابد وأنك طيب بما يكفي، وفي النهاية ستتحول تدريجياً إلى شيء أقل تأثيراً مما كنت تأمل في الأصل، وتنفتح هوة الإذلال بين ذاتك الفعلية وذاتك التي تتمناها، وستدرك أن :
أن صوت (آدم 1) فيك مرتفع بينما صوت (آدم 2) مكتوم.
وأن مخطط الحياة في (آدم 1 ) واضح بينما هو مشوش لدى (آدم 2).
وأن(آدم 1) متنبه بينما (آدم 2) يسير في نومه.