كيف يُضعف نظام تحديد المواقع الذاكرة ؟
أصبح استخدام الهواتف المحمولة للتنقل طبيعة ثانية. سواء كنت متوجهاً إلى حديقة جديدة ، أو تقابل أصدقاء في مطعم ، أو تنوي القيام ببعض المهمات ، ما عليك سوى النقر على الموقع على هاتفك والانطلاق. قبل GPS ، كان الاستكشاف والعثور على الطريق في أماكن جديدة مطلوبًا للتحضير . كان علينا التفكير ، والرجوع إلى الخرائط الورقية ، والتخطيط وحفظ أجزاء من طريقنا. ولكن في عالم التكنولوجيا اليوم ، لا داعي للتفكير، ما عليك سوى اتباع الإرشادات خطوة بخطوة على هاتفك ، وستصل الى المكان الذي تريد أن تكون فيه، لكن بالمقابل فإن قدراتك الذاتية على الاستكشاف والتفكير بكيفية التنقل بين الأمكنة التي كانت عملية يتم إجراؤها حصريًا من قبل الدماغ البشري والنظام الإدراكي للإنسان والمعروفة بإسم ( الملاحة المكانية ) تتضاءل وتضعف واصبح الإحساس العام بالمكان يعاني بعد ان تم الآن تسليمه للتكنولوجيا.
- ما ضرر استسلام النظام الادراكي البشري للتكنولوجيا ؟
هناك هياكل في الدماغ مخصصة لهذه المهام المعقدة، ويرتبط قرن آمون على وجه الخصوص ارتباطًا وثيقًا بدعم الذاكرة المكانية والملاحة المكانية ورسم الخرائط الذهنية.
ذهب علماء الأنثروبولوجيا إلى أبعد من ذلك ليقترحوا أن احتياجات الملاحة ربما كانت نقطة البداية لجميع الذكريات (كما نوقش في كتاب نيكولاس كار The Glass Cage). على سبيل المثال ، غالبًا ما تعتمد تقنيات الذاكرة لتذكر الأعداد الكبيرة مثل أرقام pi على "قصر الذاكرة" أو "طريقة الموقع" التي اشتهرت من قبل شيشرون ، مع طوابق متعددة في الدماغ وغرف متصلة حيث يخزن المرء الأرقام ذهنيًا، حيث يمكن للمرء بعد ذلك أن يتذكر سلسلة طويلة من الأرقام من خلال التنقل الوهمي ، وإعادة زيارة غرف قصر الذاكرة هذا.
- إذا لم نستخدمه ، فإننا نفقده:
مع تقدمنا في العمر تتراجع ذاكرتنا، وعلى الرغم من عدم وجود حل سحري للشيخوخة الصحية ، يتفق علماء الأعصاب على أن أحد المكونات الرئيسية للشيخوخة الناجحة هو البقاء نشطًا عقليًا. وتشير الدراسات إلى أنه يمكننا بالفعل ممارسة ذاكرة الحُصين من خلال الاستكشاف والتنقل المكاني، وان قيام الانسان بالاستخدام المستمر للملاحة المكانية يقوي الذاكرة ويحميها من التلف، وعلى سبيل المثال اثبتت الدراسات والأبحاث أن الملاحون الخبراء مثل سائقي سيارات الأجرة في لندن يمتلكون حصينًا أكبر مقارنة بالسكان العاديين نتيجة لقيامهم ذاتياً برسم خرائطهم المكانية المكثفة والخبرة متعددة الحواس للمدينة.
إذا كان التنقل المكاني عنصرًا أساسيًا للشيخوخة الصحية والنشاط العقلي ، فلماذا التخلي عن هذه المهارة الحاسمة للهواتف الذكية ؟
ان اتباع مجموعة من الاتجاهات الرقمية خطوة بخطوة من خلال الاستخدام الدائم لتطبيقات الملاحة عبر نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) اثناء السفر او التنقل من مكان الى مكان يجعل المستخدم مسافر او راكب سلبي بدلاً من مستكشف نشيط ، مما يؤدي وبمرور الوقت الى الغاء القدرة على اتخاذ القرار بمعزل عن الوسائط التكنولوجية ، وهذا بدوره يثبط القدرة على إنشاء خرائط ذهنية مناسبة للبيئة المحيطة ، ويؤثر سلبًا على الحُصين ، وهو أمر بالغ الأهمية لصحة الدماغ.
وعلى الرغم من الفوائد المتعددة للتقدم التكنولوجي ، لابد من الإشارة الى أن التكنولوجيا يمكن أن تؤثر على الدماغ في النهاية ،لذلك يجب أن يكون الهدف هو إنشاء وتصميم التكنولوجيا بطرق تكمل العقل البشري وتعزز فرص التفاعل مع العالم الحقيقي.
- الخرائط الفيزيائية ، الثورة الأولى :
تنشأ الخرائط الذهنية من الخبرة المباشرة، اثناء اكتشاف بيئات جديدة ، حيث يقوم الدماغ باستمرار بتخطيط المحيط ويستخدم الانسان جميع حواسه للتعرف على تفاصيل المكان وتذكره ، وليس فقط الرؤية. وقد ساعدت الملاحة السمعية منذ العصر الحجري على اكتشاف البيئة المحيطة وساعدت الانسان على تجنب الحيوانات المفترسة وتتبع الفريسة وتحديد مصادر المياه، وبذلك تمكن دماغ الانسان في النهاية من إنشاء خرائط تفصيلية للبيئة من خلال الاستكشاف النشط ، وهي مهارة تطورية تم اكتسابها بشق الأنفس ولم تختف أبدًا.
- نظام تحديد المواقع والملاحة المكانية :
كان ظهور نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الذي يدعم الأقمار الصناعية بمثابة ثورة في مجال الملاحة ، ومع ظهور الهواتف المحمولة ، يمكن لأي شخص الحصول على ملاحه الشخصي. يمكننا الذهاب إلى أماكن بشكل عفوي ، مع قليل من الحاجة للتخطيط أو أشخاص إضافيين للتنقل. تتيح تطبيقات الملاحة عبر نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) إمكانية التنقل المتمركز حول الذات من خلال اتجاهات سهلة المتابعة خطوة بخطوة: "انعطف يمينًا بمقدار 100 متر ، ثم انعطف يسارًا" على طول الطريق إلى الوجهة. مع هذه التسهيلات في متناول يدنا ، لم نعد ملاحين نشطين ؛ نحن ركاب سلبيون على متن GPS.
ومع ذلك، فقد أظهرت العديد من التجارب أن هذا التنقل السهل يقلل أيضًا من الوعي المكاني ورسم الخرائط الذهنية عند مقارنته بالأشكال التقليدية للتنقل التخصيصي مثل الخرائط الورقية.
- تطبيق جديد يساعدك على التنقل ، ليس من خلال الاتجاهات خطوة بخطوة ولكن عبر "إشارات" صوتية :
يتمثل التحدي في إنشاء أشكال بديلة للتنقل باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) ولكن تزيد احتمالية تحسين الوعي المكاني ، وقد توصلت احدث الدراسات والأبحاث في هذا الصدد إلى أن الإشارات الصوتية المصممة بشكل مناسب تقدم بديلاً يعزز شكلًا أكثر نشاطًا من التنقل المتمركز حول الذات، بدلاً من توجيه المستخدمين للانعطاف يمينًا والانعطاف يسارًا في طريقهم إلى وجهتهم المرغوبة ، يمكن تحويل موقع مهم إلى منارة سمعية مميزة (إصدارات رقمية من الأصوات ) تنتقل عبر سماعات الأذن أو سماعات الرأس، وهذا ما يعرف بالتطبيق الملاحي السمعي، المعروف باسم Soundscape ، وله تأثير يشبه جرس الكنيسة أو المئذنة ، حيث يمكن سماع كلمات الصلاة أو صوت الآذان على مسافة بعيدة ، بما يمكن للشخص ان يصل الى المكان من خلال التوجه نحو الصوت.
ويمكن إنشاء إشارات صوتية من قبل أي جهة بحيث يمكن سماعها من بعيد حسب الحاجة ، مثلاً يمكن للصيدلية انتاج منارة صوتية خاص بها يمكن سماعه على بعد ميلين عبر الهاتف ، مما يساعد على الوصول الى موقعها ببساطة من خلال تتبع هذا الصوت ، بالإضافة الى ان المنارات الصوتية تساعد الانسان على بناء الوعي المكاني من خلال الاستكشاف النشط والمباشر للبيئة على طول الطريق.
لقد تم تصميم هذا النوع من التطبيقات في الأصل لتحميلها على الهواتف المتنقلة للمكفوفين وضعاف البصر لتمكينهم من التنقل بشكل أكثر أمانًا ، ولكن تبين من خلال الدراسات ان استخدام هذا النوع من التطبيق كمنارة سمعية يؤدي الى تحسين قدرات الدماغ البشري على الإحساس المكاني .
وقد يكون التنقل باستخدام المنارات السمعية مثالًا لكيفية التغلب على التأثيرات الضارة للأتمتة على صحة دماغ البشر، وان الاهتمام بتحسين قدرات الدماغ وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا يقلل بالمقابل إمكانية الاستغناء عن الوظائف والقدرات الأساسية للبشر وفي مقدمتها القدرة على التطور.
من هنا فإن نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) القائم على منارات سمعية يقدم مثالًا مقنعًا على أهمية تقوية وتعزيز المدخلات الحسية البشرية بما يساعد الناس على التواصل مع بعضهم البعض ومع الواقع والبيئة المحيطة والانخراط بشكل أعمق مع الإنسانية والبيئة والحياة نفسها، وربما يجنب البشرية التطور إلى نوع جديد من الزومبي خطوة بخطوة في حال الاستمرار باستبدال المهارات البشرية الطبيعة بتقنيات تكنولوجية.