كيف يحول الدماغ الخطر البعيد إلى خطر حقيقي على صحتك
في ظل الحياة المعاصرة لم يعد المجتمع يخلو من مظاهر القلق على جميع المستويات ، فالأزمات الإقتصادية لم تعد مقتصرة على دولة دون أخرى والحرب على الإرهاب تدق طبولها في أرجاء العالم ، والمشقة تتزايد يوماً بعد يوم لتوفير احتياجات الحياة الضرورية ، والهوة بين الذين يملكون والذين لايملكون تتسع ، والبطالة تكتسح بقوة وثبات مشاعر الشباب وتقضي بلا رحمة على طموحاتهم وتحقيق أحلامهم .
وتحمل لنا وسائل الإعلام بكل أشكالها المقروءة والمسموعة والإلكترونية ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي في كل يوم وفي كل دقيقة وابلاً من الأخبار المزعجة والمؤلمة عن الإيبولا والتفجيرات الإنتحارية وتردي مستوى المعيشة كثير من المجتمعات ومعاناة اللاجئين وهم بالملايين في مخيمات النزوح ، ولا يغيب عن البال التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية والفيضانات وإنزلاقات التربة وغيرها الكثير.
وأمام كل هذه الظروف الأحوال اصبح الشك والإرتياب سيد الموقف لإستحالة التنبؤ بما ستؤول إليه هذه الأزمات التي نعيشها.
القلق يطرق الأبواب
حينما تدفع بنا الشكوك والتقلبات إلى الاعتقاد بأن مستقبلاً مظلماً ينتظرنا، تزداد الهواجس لدينا، ويصبح القلق ملازماً لنا ، حسبما جاء في عدد من الدراسات التي خلص إليها العلماء، وقد بينت هذه الدراسات أن تأثير المخاوف والأخطار البعيدة يظهر بوضوح في السلوك الدفاعي الذي يلجأ اليه الإنسان باستمرار عندما يكون ثمة تهديدات بعيدة نوعاً ما عن واقعه وتجاربه الحالية، وتتسم هذه المخاطر بأنها أقل خطراً من المخاوف الشديدة التي تكتنف الحالات المباشرة والخطيرة كأي اعتداء جسدي مباشر، ولكن تأثيرها يكون أعمق لأنها تحمل صفة المجهول أو الخطر الغريب.
ويؤدي الشعور بالقلق إلى إفراز هرمونات التوتر وذلك لدفعنا لإعادة تنظيم أولوياتنا استعداداً لأي تهديد لاحق، وتتجلى التأثيرات المعرفية في تردد مشاعر القلق، اليقظة المفرطة في دراسة مظاهر أي مشكلة في الوسط المحيط، عدم الاتزان من حيث الانتباه والذاكرة تجاه أي شيء يتعلق بتهديد.
ففي عصرنا الذي باتت سمته الإرهاب، ينتاب الناس شعور بالقلق من السفر جواً مثلاً، فعندما يجلسون بالطائرة، يلاُحظ أن المسافرين الذين ينحدرون من مجموعات عرقية معينة ويشبهون أعضاء تشكيلات إرهابية يسترعون انتباه الناس بطريقة مختلفة، لأن مظهرهم يذكر الناس وبشكل عفوي بمشاهد وصور لإعتداءات إرهابية سابقة .
لكن في الحالات العادية، قد يعود الشعور بالقلق بالفائدة، فقد يدفع الإنسان إلى إيجاد حل للمشاكل التي يواجهها ويحفزه على اتخاذ الإجراءات للتعامل مع أي تهديد لاحق – فالتفكير في الإيبولا وضرورة الاستعداد لهذا النوع من الأمراض يجعل المستشفيات على أهبة الاستعداد لمواجهته. إذاً الشعور بالقلق يعد حافزاً لاتخاذ مجموعة من الإجراءات تصب في صالح المجتمع، كالمتابعة السريعة لبعض العلاجات الطبية أو فرض تدابير دفاعية للحد من انتشار المرض.
من جهة أخرى، ثمة مستويات أعلى من القلق الذي يمكن أن يؤثر سلباً على القدرات المعرفية التي تتطلب تأدية مهام أخرى ضرورية، فقد تبين بنتائج تجربة ميدانية تم إجراؤها للوقوف على مدى تأثير القلق على الأداء من خلال مهمة بحث بصرية تحاكي إجراءات التفتيش في المطار الخاصة بالسلاح، قام بعض المشاركين بتأدية أدوار مفتشين أمنيين حيث طلب منهم البحث عن أشياء على شكل "T" بين آخرين عبر الشاشة، وعندما أثير قلقهم من خلال إصدار بعض الهزات غير المتوقعة، لوحظ أن بعضاً منهم وبفعل القلق أو الخوف لم يتمكنوا من رؤية حرف "T" الثاني عند استعراض المعلومات. لقد كان هذا التأثير واضحاً بين الأفراد الذين يعانون من مستويات عالية من القلق أكثر من غيرهم، ما يعني أن أجهزة الإنذار عند مستويات الخطر العالية المنتشرة في المطارات الأمريكية قد تحمل نتائج عكسية تتجلى في وقوع أخطاء أكثر عند التفتيش الخاص بالأسلحة بسبب ارتفاع مستوى القلق عند العاملين والموظفين.
تجاوز مرحلة القلق إلى مرحلة الخوف الشديد
على النقيض من القلق وتأثيره، تتجلى مظاهر الخوف المفرط في الطبيعة الدفاعية التي تطغى على سلوك بعض الأفراد باستمرارحيث تتجسد ردود أفعالهم في التعرف على مكامن الخطر والتخلص منها، أما الخوف فتظهر ملامحه بأوضح صوره في الكر والفر ليعيد توجيه قدراتنا الجسدية إلى التعامل مع الخطر المحدق، ومثال ذلك : تخيل أنك تمشي في زقاق مظلم وحيداً أثناء ساعات الليل وتسمع صوتاً مرتفعاً – ستتسمَّر في مكانك، وتتسارع ضربات قلبك ويسيل العرق من راحتي يديك فضلاً عن الشد الذي يصيب عضلاتك!!
إن الخوف شعور طبيعي في مثل هذه الحالات لأنه يزيد من فرص النجاة، فعلى سبيل المثال، يساعد تدفق الدم باتجاه العضلات المستخدمة للجري ن وهذا يعني أن احتمالات نجاتك أكبر لأنك ستفكر بالهرب من أي شيء يهدد حياتك، وهنا يأتي دور اللوزة الدماغية (أميجدالا) التي تبعث بتأثيرات قوية على الأنظمة الأخرى من الدماغ، فهي جزء من هيكل الدماغ المتطور منذ القدم، تقع ضمن الفص الصدغي.
فعندما ترتعد فرائس الإنسان ويحيط الخوف به من كل جانب، يتجه الانتباه إلى مكمن الخطر لتحديد ماهيته واكتشاف مكانه، إضافة إلى ذلك، يبدأ باستخدام آليات التكيف، وما إن يزول الخطر حتى تخضع الذكريات للتحديث كي تتفادى ذلك الخطر في المستقبل.
ونظراً للضغوط النفسية الشديدة التي تصاحب الشعور بالخوف، فإن المخاوف المتكررة أو التي تستغرق وقتاً طويلاً تضر بالدماغ والجسد بشكل خاص، فقد تبين أنه عندما يتخلص المرضى من اضطرابات ما بعد الصدمة، تنكمش اللوزة الدماغية وتنخفض قدرتها على إنشاء ذكريات دقيقة للمواد الخطرة ليبقى لهم ذكريات خوف معممة أكثر من الحد الطبيعي، فبدلاً من الشعور بالخوف عند مواجهة مخاطر حقيقية، يصبح أمر إثارته ممكناً من خلال محفزات يكفي أن تكون مماثلة إلى حد ما للمخاطر الأصلية، حتى يمكن أن يشعر بالخوف فجأة على نحو غير متوقع.
وقد تعترض الذكريات الصادمة مسار الحياة اليومي لأي فرد على نحو دائم، مما ينعكس سلباً على صحة ورفاه الأفراد المصابين باضطرابات ما بعد الصدمة وعلى أسرهم ويتعكر صفو حياتهم لفترات طويلة.
وأشار الباحثون أن أعراض الاضطرابات ما بعد الصدمة يمكن أن تبدأ بالظهور خلال ثلاثة أشهر من أي حادثة صادمة، لكن قد لا تظهر الأعراض في بعض الأحيان إلى بعد مرور عدة سنوات من تاريخ وقوع الحادثة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأعراض المتأخرة تكون سبباً بمشاكل كبيرة في الأوضاع الاجتماعية والمهنية وتؤثر سلباً على العلاقات.
يمكن فرز أعراض الاضطرابات ما بعد الصدمة إلى أربعة أنواع على وجه العموم: ذكريات تطفلية، الانزواء، التغيرات السلبية في التفكير والمزاج، تغيرات في ردود الفعل العاطفية، لذا ينبغي معالجة هذا النوع من الاضطرابات كما ينبغي، وإلا فإن الأفراد سيواجهون في الكثير من الأحيان صعوبات على المستويين الشخصي والمهني ويعانون من الاكتئاب أو قد يسيئون استعمال العقاقير الطبية.