كتم العلم
طفح كيل إستياء رئيس القسم من وضعه، وارتفعت نسبة همومه الوظيفية، حتى غلبت قدرته على الكتمان، فتوجه إلى مديره والدمعة في عينيه، وقال بلهجة مفعمة بالحزن
-سيدي المدير، ألست ملما بكل تفاصيل عملي؟
-أجاب المدير متعجبا: أجل والله ملم.
-فعاد رئيس القسم يسأل: ألست أملك كفاءة الأداء؟
-ردّ المدير وقد إزداد تعجبه: تملك الكفاءة بالتأكيد.
-فازداد وضوح البؤس والأسى في صوت رئيس القسم وهو يسأل: ألست قادرا على تصريف شؤون قسمي، وادارة المرؤوسين، وحسن معاملة الزملاء والرؤساء؟
-أجاب المدير دون أن يدرك سبب هذه الأسئلة التي تنثال عليه متتابعة: لا ينكر أحد قدراتك، وحسن إدارتك، ولطيف معاملتك.
-فقال رئيس القسم بلهجة إستفهام وإستنكار: هل عرفتم عني مخالفة اللوائح، أو خروجا على أعراف العمل.
-ردّ المدير وقد كاد ينفذ صبره: حاشاك ذاك.
-فاستطرد رئيس القسم في أسئلته قائلا: هل صدف أن وجدتم في كشوفاتي وتقاريري هنة، أو زلة، أوهفوة؟
-قال المدير وقد بدأ يحتدّ: إنك معروف بدقتك، ولكن لماذا كل هذه الأسئلة؟
-فأجاب رئيس القسم بعد أن كاد يجهش بالبكاء: إذا كانت هذه شهادتك لي، فلماذا يترقى زملائي وأمكث أنا في نفس الوظيفة، أقوم بنفس المهام، وأتولى نفس المسؤوليات منذ عشر سنين، يزداد خلالها راتبي، وتبقى رتبتي ثابتة، ويظل منصبي على ما هو عليه؟
- ضحك المدير وقال: هذا ما جنيته على نفسك...
أحسّ رئيس القسم بأن صاعقة سقطت على رأسه، فقال مستنكرا الى حدّ الشجب: لكنك لم تنكر علي قبل قليل علمي، وكفاءتي، وإلتزامي، ودقتي، وحسن تصرفي تجاه الناس وتجاه شتّى الأمور، فأين الجناية التي جنيت؟
- فقال المدير بلهجة من يذيع سرا طال إختفاؤه: ما زلت لا أنكر عليك شيئا مما شهدت به لك، لكنك جنيت على نفسك حين احتكرت العلم لذاتك، وأبيت أن تعلم أحدا أسرار وظيفتك، وأخفيت المعلومات المهمة عن مرؤوسيك، واتبعت شتّى السبل لكي لا يلم أي منهم بتفاصيل الاجراءات، واقنعت رؤساءك بأنك الوحيد القادر على القيام بأعباء عملك، لأن مرؤوسيك دونك في الخبرة والعلم والقدرة. وعلى أساس ذلك لم يجد المسؤولون من يمكنه أن يكون بديلا عنك حين تترقى، فبقيت على حالك. ولو إنك لم تكتم العلم، ولم تحتكر العمل، ودرّبت موظفيك وأعددتهم وأهلتهم، لارتقيت كثيرا.
من كتاب: ومضات إدارية
تأليف: إبراهيم كشت
دار وائل للنشر والتوزيع – الطبعة الثالثة – 2004م
70 موضوعا – 302 صفحة