المجتمعات الإنسانية عبر العصور من الصيد والترحال الى الحاسوب والحقائق الإفتراضية
بالرغم من تأسيس الإنسان لعدة أنواع من المجتمعات عبر الزمان، إلا أن علماء الاجتماع والإنسان (الخبراء الذين درسوا ثقافات القبيلة البدائية) يُشيرون دائماً إلى ستة أنواع مجتمعية أساسية مميزة بفضل مستواها التقني.
مجتمعات الصيد والالتقاط:
يعيش أفراد مجتمعات الصيد والالتقاط على صيد الحيوانات والأسماك والتقاط النباتات. ومعظم هذه المجتمعات كانت موجودة في الماضي ومازالت هناك قلة من هذه المجتمعات موجودة حتى يومنا هذا ويقدر عدد أفرادها مجتمعين بحوالي مليون شخص يعيشون في اعماق الغابات الكثيفة او الصحراء النائية لكنهم مهددون بالانقراض.
وقد اعتمدت المجتمعات الإنسانية المبكرة على بيئتها المحيطة بها بشكل مباشر لكي تظل على قد الحياة، وعندما غادرت الحيوانات تلك المنطقة أو ذبلت النباتات أو جفت الأنهار، تعين على ذلك المجتمع أن ينتقل لمكان آخر تكون فيه الموارد وفيرة، وبالتالي فإن مجتمعات الصيد والالتقاط كانت صغيرة نموذجياً وتعتمد الترحال كثيراً. هذا ومن المحتمل ان بعض القرى الصغيرة قد تشكلت في ذلك العصر في المناطق التي كانت فيها الموارد كثيرة جداً، لكن معظم مجتمعات الصيد والالتقاط كانت جوالة تتنقل دائماً بحثاً عن الطعام والماء.
وتُقسم العمالة في مجتمعات الصيدوالالتقاط بالتساوي بين أفراده بسبب طبيعة الترحال في المجتمع، وتعمل هذه المجتمعات على تخزين قليل من الموارد التي تفيض عن حاجتها. لذا فإن أي شخص يستطيع الصيد أو جمع الفواكه والخضروات قد يقوم بذلك، ويُحتمل ان تحصل في هذه المجتمعات بعض الانقسامات في العمالة بناءً على الجنس، حيث يُرجح أن تسافر الذكور لمسافات بعيدة للصيد لتعقب الحيوانات الكبيرة، في حين تصيد الإناث الحيوانات الصغيرة، وتجمع النباتات وتصنع الألبسة وتحمي الأطفال وتربيهم، وتساعد الذكور على حماية المجتمع من المجموعات المنافسة.
وتتسم مجتمعات الصيد والالتقاط بالقبلية، حيث يتشارك الأفراد ميراث الأجداد ومجموعة مشتركة من التقاليد والطقوس، فضلاًً عن أنهم يضحون بنزعاتهم الشخصية في سبيل الحفاظ على ثقافة المجتمع الأكبر.
المجتمعات الرعوية:
يرعى أفراد المجتمعات الرعوية - التي ظهرت منذ 12.000 سنة مضت - الحيوانات من أجل تأمين الطعام والمواصلات. وما تزال المجتمعات الرعوية موجودة حتى يومنا هذا وتتركز في المناطق الصحراوية في شمال أفريقيا التي تفتقر إلى ثقافة الزراعة والتصنيع.
ويسمح ترويض الحيوانات بإدارة توريد الغذاء إدارةً أفضل من تلك الموجودة لدى مجتمعات الصيد والالتقاط. هكذا نجد أن المجتمعات الرعوية قادرةٌ على خلق فائض من الأطعمة؛ الأمر الذي يُمكن من تخزين الأطعمة لغرض الاستعمال المستقبلي. ومع تقدم عملية التخزين نمت الرغبة في تطوير مستعمرات تسمح للمجتمع بالاستقرار في مكان واحد لفترات زمنية أطول، وتزامناً مع الاستقرار يأتي دور التجارة بالبضائع الفائضة بين المجتمعات الرعوية المتجاورة.
فضلاً عن ذلك تسمح المجتمعات الرعوية لمجموعة معينة من أفرادها (أولئك الذين لا يشتغلون بتربية الحيوانات) بالانخراط في نشاطات مختلفة عن تأمين المعيشة، فنجد بينهم التجار والمعالجين والقادة الروحانيين والحرفيين، بالإضافة إلى غيرهم ممن يشتغلون بمهن خاصة.
مجتمعات البستنة:
على عكس المجتمعات الرعوية التي تعتمد على تربية الحيوانات، تعول مجتمعات البستنة على العناية بالفواكه والخضروات والنباتات. وقد ظهرت هذه المجتمعات في مناطق مختلفة من كوكبنا في الوقت ذاته الذي ظهرت فيه المجتمعات الرعوية. وكما هي الحال في مجتمعات الصيد والالتقاط، لا بد لمجتمعات البستنة من التنقل. ويُعد استنزاف موارد الأرض أو انحسار المصادر المائية أمثلةً عن عوامل أرغمت الناس على الترحال. وقد يتوفر لدى مجتمعات البستنة في بعض الأحيان فائض لديها لذا فهي تقوم بتخزينه، وساعد هذا على انبثاق مهن أخرى غير متعلقة بتأمين معيشة المجتمع.
المجتمعات الزراعية:
تستغل المجتمعات الزراعية التقدم التقني في سبيل حصاد المحاصيل (سيما الحبوب مثل القمح والأرز والذرة والشعير) الممتدة على مساحات كبيرة. ويستخدم علماء الاجتماع مصطلح الثورة الزراعية للإشارة إلى التغيرات التقنية التي طرأت على مر 8.500 عاماً مضت، والتي أدت إلى حصاد المحاصيل وزيادة عدد حيوانات المزارع. وقد سبب فائض الغذاء إلى تزايد نسبة السكان مقارنةً بالمجتمعات السابقة. هذا يعني ارتفاعاً كبيراً جداً أدى بدوره إلى نشوء المدن التي أصبحت مراكز تجارية تؤمن بيئة خصبة للحكام والمتعلمين والمهنيين والتجار والقادة الدينيين الذين ليس عليهم القلق حول العثور على قوتهم.
وقد شهدت المجتمعات الزراعية ظهور طبقات اجتماعية أكبر، وعلى سبيل المثال كانت النساء تتمتع بمكانة اجتماعية أعلى لأنها تتشارك العمل بالتساوي مع الرجال، حتى أن النساء في مجتمعات الصيد والالتقاط كانت تجمع طعاماً أكثر من الرجال، لكن مع تطور متاجر الطعام أخذت النساء دوراً أقل في تقديم الطعام للعائلة، وأصبحوا أكثر خضوعاً للرجال.
مع توسع القرى والمدن إلى المناطق المحيطة، كان من الضرورة بمكان نشوب صراعات مع المجتمعات الأخرى، لذا عمل المزارعون على تزويد المحاربين بالطعام مقابل حمايتهم ضد أي غزو للأعداء. وظهر عقب ذلك نظام للقادة أصحاب المكانة الاجتماعية الرفيعة ؛ وقدعمل هؤلاء النبلاء على تنظيم المحاربين لحماية المجتمع من أي غزو. وبهذه الطريقة نجح النبلاء في انتزاع البضائع من الأشخاص الأقل مكانةً في المجتمع.
المجتمعات الإقطاعية
كانت الإقطاعية سمة المجتمع منذ القرن التاسع لغاية الخامس عشر، وكانت مبنية على ملكية الأراضي. وعلى عكس مزارعي اليوم، فقد كان مزارعو الإقطاعي ملزمين بالاعتناء بأراضي سيدهم. ولقاء الحماية العسكرية يستغل الأسياد المزارعين لتقديم الطعام والمحاصيل والصناعات اليدوية والخدمات الأخرى إلى مالك الأرض والولاء له. وامتد نظام الطبقات في المجتمعات الإقطاعية من جيلٍ لآخر، وقد تقوم عائلات الفلاحين بالاعتناء بأراضي سيدهم عدة أجيال.
وما بين القرن الرابع عشر والسادس عشر، ظهر نظام اقتصادي جديد بدأ باستبدال الإقطاعية بنظام آخر هو الرأسمالية التي امتازت بفتح أبواب المنافسة في سوقٍ حر يكون اقتناء وسائل الإنتاج فيه أمراً متاحاً للأفراد. وكان اكتشاف أوروبا لأمريكا أحد الدوافع لتطور الرأسمالية، وقد حفز قدوم المعادن والمهارات والبهارات الأجنبية النشاط التجاري في أوروبا إلى حد كبير.
المجتمعات الصناعية:
تقوم المجتمعات الصناعية على استعمال الآلات (خاصةً تلك العاملة بالوقود) بغية إنتاج البضائع. ويُشير علماء الاجتماع إلى أن فترة القرن الثامن عشر التي شهدت إنتاج البضائع عن طريق المصانع الآلية كانت بداية الثورة الصناعية التي ظهرت بادئ الأمر في بريطانيا ثم انتشرت بسرعة إلى بقية العالم.
وأدى ارتفاع معدل الإنتاجية إلى تطور وسائل النقل تطوراً سهَّل نقل المنتجات من مكان لآخر. وتركزت ثروات ضخمة في أيدي قلة ممن يملكون المصانع، في حين لجأت جموع الناس إلى البحث عن أعمال في تلك المصانع.
وقد أدى التصنيع إلى إحداث تغيرات في معظم نواحي المجتمع. وبما أن المصانع أصبحت مركز العمل، قلت أعداد أكواخ المعيشة التي أضحت أماكن عمل اعتيادية، كما هو حال دور العائلة الذي تراجع في تقديم التدريب المهني والتعليم، حيث أخذ التعليم العام من خلال المدارس على كاهله هذه المسؤولية، وأصبحت وسائل الإعلام الضخمة هي العُرف المتبع. كما ازداد متوسط أعمار الناس بفعل تحسن صحتهم. فضلاً عن أن المؤسسات السياسية تغيرت إلى نماذج حديثة من الحوكمة. هذا وقد ازداد التنوع الثقافي كما هي حال حركة تنقل أفراد المجتمع. علاوةً على ظهور مدن كبيرة لتكون أماكن لفرص العمل في المصانع. كما انتقلت السلطة الاجتماعية إلى أيادي النخبة الاقتصادية والمسؤولين الحكوميين الذين قادوا الصراعات بين العمال والصناعيين، ثم تشكلت نقابات العمال ومؤسسات المجتمع المدني رداً على هذه النزاعات والمخاوف المتعلقة بحياة العمال بما في ذلك الأطفال الذين يكدحون في المصانع. وقد استمرت التغيرات السريعة في التقنيات الصناعية، خاصةً إنتاج آلات أكبر ووسائل نقل أسرع، وشهدت الثورة الصناعية أيضاً تطور أشكال جديدة للبيروقراطية في المؤسسات، بالإضافة إلى إنجاز قوانين مكتوبة وتفاصيل للعمل ومناصب غير شخصية وطرائق هرمية للإدارة.
مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية
يرى علماء الاجتماع إلى أنه بالتزامن مع اختراع الرقائق الحاسوبية شهد العالم ثورة تقنية؛ هذه الثورة حدت بدورها إلى نشوء مجتمع ما بعد الثورة الصناعية القائم على المعلومات والمعرفة وبيع الخدمات. فعوضاً عن التعويل على إنتاج البضائع في المصانع، يُمكن صياغة المجتمع عن طريق عقل الإنسان الذي تساعده التقنيات الحاسوبية. وعلى الرغم من أن المصانع ستظل قائمة دائماً، لكن يبدو أن مفتاح الثروة والطاقة يكمن في القدرة على خلق المعلومات وتخزينها والتلاعب بها وبيعها.
ويستشرق علماء الاجتماع سمات المجتمع اللاحق للثورة الصناعية في المستقبل القريب، فيتوقعون مستويات أعلى من التعليم والتدريب والتركيز على المستهلك وتوفير للبضائع وزيادة قدرة التنقل في المجتمعات. وفي حين أنهم يأملون انخفاضاً لحالات عدم المساواة سيما أن المهارات التقنية والخبرات بدأت تُحدد الطبقة عوضاً عن ملكية العقارات، إلا أنهم قلقون أيضاً من الانقسامات الاجتماعية المحتملة بين من يستأثرون بالتعليم وأولئك الذين لا يملكونه. ويرى علماء الاجتماع أن المجتمع سيصبح أكثر اهتماماً بالعناية بأفراد المجتمع. ويأملون ألا يتسم مجتمع ما بعد الثورة الصناعية بأي صراعات اجتماعية وأن يعمل جميع أفراده على حل مشاكله من خلال العلم.