نحن والعلم الدقيق
لا نبالغ إن قلنا إن الحضارة الحديثة تقوم بصورة رئيسية على قاعدة العلم الدقيق Exact Science. فأساس الحياة الحديثة هو التكنولوجيا الرفيعة، أي أدوات الإنتاج والتوزيع والاتصال والنقل والقتال والترفيه المتطوّرة. وهذه التكنولوجيا الحديثة تقوم على قاعدة العلم الدقيق. بل إنها تجسيد عملي لهذا العلم. فما هو وضعنا، نحن العرب، بإزاء العلم الدقيق؟
لنبدأ أولاً بتعريف العلم الدقيق. عندما نذكر العلم الدقيق عادة، يتبادر إلى ذهننا علوم معينة، هي الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك والكيمياء، وإلى حد ما، الجيولوجيا والبيولوجيا، بالإضافة إلى العلوم الهندسية التطبيقية التي تنبثق عنها. وجوهر العلم الدقيق هو العلاقة العضوية الضرورية بين التنظير المقداري بالمنطق الرياضي وبين التجربة الدقيقة والقياس الدقيق، بحيث تنبثق التجربة من قلب النظرية الرياضية وتنبثق الأخيرة من قلب التجربة الدقيقة.
بهذا المعنى، هل إن العلم الدقيق هو نتاج الحقبة الحديثة (آخر 400 عام)؟ هل هو مشروع أوروبي أساساً؟ بالتأكيد لا. فقد دلت الدراسات التاريخية الرصينة على أن أول علم دقيق بالمعنى المطروح أعلاه نشأ في مدينة بابل العراقية حوالي عام 500 ق.م. وهو علم الفلك البابلي، الذي ارتكز نظرياً إلى التحليل العددي وتجريبياً إلى الرصد الدقيق للأجرام السماوية. ومنذ القرن الثالث قبل الميلاد، طوّر الإغريق علما دقيقاً آخر، هو علم الفلك الإغريقي، الذي ارتكز نظريا إلى الهندسة الرياضية، وتطوّر في الحضارة الإغريقية والحضارة الهلنستية (اليونانية الشرقية)، ووصل أوجه في الحضارة العربية الإسلامية في أمثال العرضي والطوسي والشيرازي وابن الشاطر.
ومن جهة أخرى، فقد أنشئ علم دقيق آخر في الحضارة العربية الإسلامية، هو علم الضوء (البصريات)، على أيدي أمثال الكندي وابن السهل وابن الهيثم.
لكن الملاحظ أنه، في كل الحضارات السابقة ما قبل الحديثة، ظل العلم الدقيق محصوراً في هذين النطاقين: دراسة الأجرام السماوية ودراسة الضوء. لربما اعتقد الأقدمون أن الأجرام السماوية والضوء كيانات مثالية غير مادية تليق بها أساليب العلم الدقيق. أما نطاق المادة والحركة، فقد ظل خاضعا لأساليب "فلسفية" مغايرة لأساليب العلم الدقيق، قوامها العلل الفلسفية الأولى وموضوعية عالم الحواس.
وفي عام 1543، نشر كتاب "حول دوران الأفلاك السماوية" للفلكي البولندي، نيكولاوس كوبرنيكوس، والذي فصل فيه نظرية في المجموعة الشمسية قوامها مركزية الشمس، بدلاً من مركزية الأرض. وكان هذا الحدث بمثابة شرارة لانفجار ثورة فكرية عارمة أخذت تعرف باسم الثورة العلمية الكبرى(1543-1687). وأهم إنجاز لهذه الثورة هو اكتشاف الفيزيائي الإيطالي، غاليليو غاليلي (1564-1642)، طرائق جديدة لإخضاع المادة والحركة لأساليب العلم الدقيق ومنطقه. بذلك، فقد أفلحت الثورة العلمية الكبرى في تحطيم الأساليب "الفلسفية" القديمة واستبدال منطق العلم الدقيق في دراسة بنى الطبيعة جميعا. وتوّجت هذه المسيرة بنظرية نيوتن في المادة والحركة والجاذبية (1687)، التي شكلت مذاك أداة نظرية شاملة لفهم ظاهرات الكون على اختلاف طبائعها فهما مقداريا دقيقاً. وسرعان ما قادت هذه الثورة الفكرية إلى ثورة في التكنولوجيا شكلت أساساً للثورة الصناعية وللعالم الصناعي الحديث.
أين نحن العرب من كل ذلك؟ لقد كنا في طليعة الأمم في مجال العلم القديم. لكننا عجزنا عن تخطي العلم القديم صوب العلم الدقيق الحديث. لا بل، لقد خسرنا العلم القديم تماماً من دون تملك العلم الدقيق الحديث. فنحن اليوم نفتقد إلى الكثير من شروط إنتاج العلم الدقيق- الشروط الفكرية والثقافية والاقتصادية-- الأمر الذي يفسّر فقرنا المدقع في إنتاج العلم والتكنولوجيا والهجرة الكبيرة للعقول العربية إلى المراكز الحضارية الكبرى. وهذا يعني أننا ما زلنا مفوتين خارج التاريخ وخارج العصر. إننا نذوق يومياً بعض ثمار العلم الدقيق، لكننا نعجز عن تملكه بما يتيح لنا الانخراط في صنع الحضارة الحديثة. وهذا ينعكس بصورة مريعة على استقلالنا وبنانا الإنتاجية وحياتنا الثقافية. إن تملك العلم الدقيق لهو شرط أساسي لتقدم الأمة واستقلالها وحريتها.
لذلك، فهو يشكل التحدّي الأكبر أمامنا. فهل نكون بقدر هذا التحدّي في هذه الأرض اليباب؟