توجّهات حديثة في ميدان التميز التربوي والابتكار
في إطار الحديث عن التوجّهات الحديثة في ميدان التميز التربوي والابتكار، سأعرض للمحاور التالية:
(1) هل أنت مبدع أم متفوق؟
في إطار البحث عن مكونات التميز ومتطلبات الإبداع والابتكار، تقوم المراكز البحثيّة الدولية بدراسة ماهيّة الإبداع والابتكار، وكيف يمكن قياس مستوى الإبداع الكامن في مختلف المراحل العمريّة؛ بدءًا من مرحلة المدرسة الابتدائيّة، ومروراً بمرحلة الدراسة الجامعيّة، وانتهاءًا بالحياة العمليّة. وتنبني عملية القياس هذه على تعريفنا للإبداع، إذ يشير مفهوم الإبداع إلى الشخص الذي يتمتع بدرجة من الأصالة (بمعنى التوصل إلى أفكار ونتاجات لم يسبقه إليها أحد)؛ ودرجة من الطلاقة (بمعنى القدرة على إنتاج جملة من الأفكار وبدائل وسيناريوهات الحلول الملائمة للمشكلات التي يعمل على معالجتها)؛ ودرجة من المرونة (بمعنى القدرة على التعامل مع مجالات ومحاور عمل مختلفة)؛ والميل إلى التفصيلات (بمعنى القدرة على معالجة الأمور بصورة معمقة، وإدراك جوانب الموضوع كافة وأبعاده المختلفة)؛ والقدرة على تحسس المشكلات، وهنا يتبدى الدور الاجتماعي والقيادي للموهوب والمبدع؛ حيث يمتلك القدرة على تحديد مشكلات المجتمع واحتياجاته، ومن ثم يتصدى لمعالجتها.
ونحن في جامعة السوربون قمنا بصياغة تعريف آخر لمفهوم الإبداع يشير إلى القدرة على إنتاج شيء ما غير مسبوق في سياق محدد (مثل: العلوم؛ الموسيقى؛ اللغة؛ الرياضيات؛ التقانة ). وقام فريقنا البحثي بتطوير بطارية اختبارات لقياس القدرة الإبداعية الكامنة؛ وهي تعرف اختصاراُ ب (EPoC). أمّا العمليّة الإبداعيّة فهي سلسلة الأفكار والأفعال المؤدية إلى تقديم منتج جديد مبتكر، ومناسب للسياق.
وهناك اختلاف بين الإبداع والتفوق. وهذه مسألة على درجة عالية من الأهميّة؛ إذ لا يجوز الخلط بين هذين المفهومين. إذ يشير مفهوم التفوق إلى الشخص الذي يتمتع بقدرات عقليّة عادية، ويحقق إنجازات رفيعة المستوى في ميدان من ميادين الحياة (الرياضة، الحرف اليدوية، التجارة، النجارة، السباكة، الحدادة، ...).
ومن أبرز التوجهات العالمية، قياس الإبداع الكامن لدى المدراء ورجال الأعمال والمسؤولين وأصحاب الشركات والمؤسسات بمختلف أنواعها ومجالات عملها، ومنها: التربوية، والمصرفية، والخدماتية، والزراعية، والصناعية، والتجارية، والتكنولوجية. وتعدّ جامعة السوربون في فرنسا من الجامعات الرائدة في هذا الميدان؛ بفضل فرق الخبراء والمتخصصين في الإبداع والابتكار التي وظفت خبراتها في المجالات المذكورة أعلاه. ويعمل المركز الدولي للتطوير التربوي (ICIE)، ومقره الرئيس في ألمانيا، على توفير برامج التدريب والتمكين التي تساعد في التعرف إلى مستوى الإبداع لدى الأفراد والمؤسّسات، والإلمام بطرائق مبدعة لاكتشاف المبدعين العاملين في أي مؤسّسة، للارتقاء بمنظومات الإنتاج.
(2) التربيّة من أجل التميز والإبداع والابتكار:
ينبغي أنْ تكون التربية من أجل التميز والإبداع والابتكار أولوية واستراتيجيّة وطنيّة تعمل الدولة على تنفيذها بهدف اللحاق بركب الدول المتقدمة؛ وغايتها أنْ يتخرّج الطلبة وهم على درجة عالية من: الإبداع، والإنتاجية، والقدرة على التثقيف الذاتي والتعلم المستمر.
وأي مشروع من مشروعات التميّز التربوي: ينطلق من رسالة؛ ويحلق في فضاءات وآفاق الإبداع وفق رؤيّة محددة؛ بغرض تحقيق جملة الأهداف والغايات بوساطة آليات عمل تأخذ في الحسبان متطلبات الحاضر وتوجهات المستقأخلاق،بل؛ ويحظى بدعم المجتمع وتمويله ورعايته وحمايته؛ وتتسم هذه المشروعات بالأصالة والمرونة، ومحكومة بضوابط أخلاقيّة؛ والتفاعل الحي مع المؤسسات التربوية على المستويات الثلاثة (الفرديّة، والمجتمعيّة، والعالميّة).
(3) ما رسالة التربية التي نريد؟
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما رسالة التربية التي نريد؟ نحن بأمس الحاجة إلى بيئات تربويّة شاملة تساعد كل فرد في النماء المتكامل والتعلم والتطور. ومن واجب المجتمع العمل على توفير الخدمات والبرامج التربوية التي تنطوي على قدر من التحدي وتنسجم مع قدرات الطلبة وميولهم واهتماماتهم وأنماط التعبير والتعلم لديهم، وتلبي احتياجاتهم (المعرفيّة، والتربويّة، والنفسيّة، والصحيّة، والاجتماعيّة، والوظيفيّة)؛ وتهيئة وإعداد الموهوبين والمبدعين للمستقبل بوصفهم مواطنين منتجين وقياديين يمتلكون المعارف والمهارات والخبرات التي تمكنهم من تحمل المسؤولية والتعلم الذاتي المستمر؛ وتشجيع الاتجاهات الإيجابيّة والاستقلاليّة والالتزام بالقيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة. ولا يفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى ضرورة إعادة النظر في رسالة النظم التربوية القائمة والوظائف التي تقوم بها كي تكون قادرة على مواجهة تحديات المستقبل.
(4) أهميّة وضرورة رعاية الموهوبين والمبدعين:
التربية من أجل التميز والابتكار والإبداع تعني ضرورة وأهميّة رعاية الموهوبين والمبدعين بوصفهم الفئة التي تشكل محور وهدف هذا المستوى المتقدم من التربية والتعليم. وعلى قاعدة التميز، ورغبتنا الأكيدة في استثمار "ثروتنا" تنبني جملة الخطوات والإجراءات التنفيذية التي قد تتلخص في النقاط التّاليّة:
• توفير الفرص التربوية التي تنسجم مع قدرات الموهوب وميوله واهتماماته ونمط تفكيره ونمط تعلمه واتجاهاته ودوره الاجتماعي ومصفوفة القيم التي يمتلكها؛ ومساعدة الموهوبين والمبدعين في البحث والاستكشاف والتجريب؛
• نشر الوعي بأهميّة ميدان تربية الموهوبين، وخلق ثقافة مجتمعيّة تتصل بتربية الموهوبين والمبدعين؛
• تطوير الأدب التربوي وأدوات المسح السريع والكشف والتشخيص الدقيق؛
• توفير برامج الكشف المبكر عن الطلبة الموهوبين والمبدعين؛
• توفير الخدمات والبرامج والتسهيلات التربوية والتقانيّة رفيعة المستوى التي تساعد في تلبية الاحتياجات الخاصة بالموهوبين والمبدعين من ناحيّة، وتساعد في امتلاك معارف ومهارات وخبرات واسعة وعميقة توظف في التفكير المبدع والتفكير الناقد والحل المبدع للمشكلات واتخاذ القرار من ناحية ثانيّة؛
• توفير برامج التدريب والإعداد الأكاديمي رفيع المستوى لأعضاء الهيئة الإداريّة وأعضاء هيئة التدريس في المؤسسات التربوية؛
• الإسهام في الفعل الحضاري العالمي في هذا الميدان؛
• إجراء البحوث والدراسات التي تساعد في تعميق الفهم وإثراء البنيّة المعرفية التي تشكل جوهر ميدان رعاية الموهوبين والمبدعين.