رسالة آينشتاين إلى ولديه
"العالم الذي أبدعناه هو نتاج تفكيرنا، وليس في مقدورنا تغيير العالم من دون تغيير تفكيرنا." ألبرت آينشتاين
كثيرة هي الرسائل التي يكتبها الآباء والأمهات الى أبنائهم، والتي تحمل في طياتها الدروس والعبر والتوجيهات والنصائح؛ وتهدف إلى تعزيز منظومة القيم التي يمتلكها الفرد؛ وهي تأتي من القلب إلى القلب، وتحمل معاني ودلالات يرغبون في تسليط الضوء عليها. وقد يتلقف الآبناء هذه الرسائل، وتلقى الصدى الإيجابي في نفوسهم، وقد يكون مصيرها سلة المهملات لسبب أو أكثر، بخاصة عندما يعتقد بعض الأبناء أنّ محصول الخبرة والمعرفة لديهم أكبر مما يتوافر لدى صاحب الرسالة.
وفي تاريخنا الطويل أمثلة كثيرة. ولكن، في هذه المقالة سأنقل إلى قراء "ثروتنا" نص الرسالة التي كتبها ألبرت آينشتاين إلى ابنه الأكبر هانز وابنه الأصغر إدوارد، والتي تنطوي على جملة منطويات إنسانيّة وتربويّة.
ولد ألبرت آينشتاين في مدينة أولم (Ulm) في الرابع عشر من شهر آذار/ مارس من عام 1879م، والتي كانت تتبع مملكة فوتمبرغ في الامبراطورية الألمانية، والتي امتد تاريخها من العام 1806 وحتى العام 1918. وهذه المدينة تتبع الآن ولاية بادن فوتمبرغ وعاصمتها شتوتغارت. وتعدّ هذه الولاية ثالث أكبر حكومة محليّة بين الولايات الستة عشر التي تتشكل منها ألمانيا الاتحاديّة من حيث المساحة وعدد السكان؛ اذ تبلغ مساحتها حوالي 36 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها حوالي 11 مليون نسمة. وقد عاش آينشتاين في كل من: ألمانيا؛ إيطاليا؛ سويسرا؛ النمسا؛ بلجيكا. وهاجر في خريف عام 1933 برفقة زوجته الثّانيّة إلسا (Elsa) إلى الولايات المتحدة الأميركية. وتوفي في برينستون – ولاية نيوجيرسي في الثامن عشر من شهر نيسان / إبريل 1955 عن عمر ناهز 76عاما.
ومدينة أولم غنيّة بالمعنى الواسع والشامل لهذه الكلمة، وهي تسحر الزائر بحضارتها وتراثها ومرافقها وثقافتها ومؤسّساتها ومصانعها، ومزارعها، وكنائسها وأماكن العبادة فيها، ونهرها العظيم، نهر الدانوب. وفي مدينة أولم واحدة من أقوى الجامعات الألمانيّة، وهي جامعة أولم ، والتي عمل رئيسها الفيزيائي البروفيسور كارل أوخاييم إيبلينك (Prof. Dr. Karl Joachim Ebeling) من أجل تسميتها باسم ألبرت آينشتاين؛ إلا أنّه فشل في ذلك لأسباب سياسيّة؛ لكنه نجح في أنْ تكون جامعة أولم في مقدمة الجامعات الألمانيّة والأوروبيّة خلال فترة رئاسته التي انتخب لها ثلاث مرات متتاليّة.
في عام 1915، كان ألبرت آينشتاين يبلغ من العمر حينذاك (36)عاما. وكان يعيش في مدينة برلين التي مزقتها الحرب. وفي الوقت ذاته كانت زوجته ميليفا ماريك قد انفصلت عنه، وأولاده يعيشون في مدينة فيينا. وفي اليوم الرابع من شهر تشرين الثّاني / نوفمبر من العام ذاته، وبعيد انتهائه من كتابة ورقة من صفحتين تقدم نظرية النسبيّة العامة؛ كتب رسالة خاصة إلى ابنه هانز، وعمره حينذاك 11 عامًا، وهي السّاعة منشورة في الكتاب الموسوم بالعنوان: "أجيال المستقبل: رسائل عظماء أميركا إلى أبنائهم". وإنْ كانت الترجمة غير دقيقة؛ فعنوان الكتاب باللغة الإنكليزيّة هو (Posterity: Letters of Great Americans to Their Children)؛ وجاء فيها:
بالأمس وصلتني رسالتك العزيزة وكنت سعيداً بها، وكنت أخشى أنّك لا ترغب في الكتابة لي من جديد. قلت لي عندما جئت لزيارتكم في زيوريخ أنّك تشعر بالإحراج والانزعاج من هذه الزيارة. لذا، قد يكون من الأنسب، في المرّات المقبلة، اللقاء في مكان آخر حيث لا يستطيع أي شخص التدخل في مجريات اللقاء أو إزعاجنا. وسأحاول أنْ نلتقي سنويّاً لمدة شهر كامل؛ وبذلك ترى أنّ لديك أب وهو يشتاق إليك ويحبك. وسيكون في مقدورك أنْ تتعلم مني أشياء نافعة وجميلة. سوف تتعلم أشياء لن يقدمها لك أي شخص آخر.
الإنجازات التي حققتها بفعل الأعمال الشاقة والجهود المتواصلة يجب أنْ لا تكون فقط متوافرة للغرباء؛ وإنّما يجب أنْ يفيد منها أولادي أوّلاً. في هذه الأيام تمكنت من استكمال واحدة من أجمل الأعمال في حياتي. ولكن عندما تكبرون سأحدثكم عنها. أنا سعيد جدّاً لأنّك تجد المتعة في العزف على البيانو، ويسعدك القيام بأعمال النجارة؛ ومن وجهة نظري أنّ هذه الأعمال تناسب من هو في عمرك. وقد يكون هذا أفضل من المدرسة؛ لأنّ هذه الأعمال مناسبة جدًا للأشخاص الذين هم في عمرك.
حاول أنْ تقوم بالأعمال التي تجد فيها المتعة، اعزف المقطوعات التي تحبها وتجلب السعادة إلى نفسك، حتى لو لم تكن من ضمن الواجبات المدرسيّة التي يحددها المعلم. عندما تقوم بالعمل الذي تحبه ويشعرك بالمتعة والسعادة ستجد أنّ الوقت يمر بسرعة ومن دون أنْ تشعر به. في بعض الأحيان انغمس في العمل الذي أقوم به، وأفقد الشعور بالوقت، وقد لا أتذكر موعد الغداء. وختامًا، مع قبلاتي لك ولأخيك، وتحياتي لوالدتك.
وقبل الانتقال إلى الجزء التالي من هذه المقالة، أشير إلى أن هانز ألبرت آينشتاين قد أكمل دراسته الجامعيّة بدراسة الهندسة المدنية، وتخرج في عام 1926، وعمل في مدينة دورتموند الألمانية عدة أعوام ثم هاجر إلى أميركا، وعمل في جامعة كاليفورنيا في بيركلي كأستاذ في مجال الهيدروليك في الفترة من عام 1947 وحتى عام 1971. وحقق إنجازات رفيعة المستوى. وقد تحسنت علاقته بوالده، وقاما برحلات عديدة في أنحاء أميركا. وفي السادس والعشرين من شهر تموز/ يوليو1973 توفي هانز بسبب مرض القلب. أمّا إدوارد فقد ولد في عام 1910 وكان يعاني من انفصام الشخصيّة، وتوفي في عام 1965. وتوفيت والدتهما في زيوريخ في اليوم الربع من شهر آب / أغسطس من العام 1948.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، وبعد عرض رسالة ألبرت آينشتاين، هو: ما المنطويات التي حملتها هذه الرسالة، وكيف يمكن الإفادة منها؟
• أشارت البحوث والدراسات إلى طبيعة العلاقات الأسرية الخاصة بالموهوبين والمبدعين؛ حيث يسودها التوتر وعلاقات غير طبيعيّة قد تنتهي بالانفصال أو الطلاق. ومن الأمثلة على ذلك الحياة الأسريّة التي كان يعيشها آينشتاين؛
• ينغمس الموهوب والمبدع في عمله انغماسًا تامًا، وسمته الالتزام والمثابرة، والعمل على مدار السّاعة بغرض تحقيق هدف ما؛ وهذه السلوكات تفسّر حالة العزلة التي يعيشها الموهوب والمبدع؛ وضعف المشاركة في الأنشطة الاجتماعيّة؛
• قد يلجأ أحد الوالدين إلى تأليب وتحريض بقية أفراد ضد الطرف الآخر؛ بهدف: عزله، وتدمير منظومته القيميّة، وإفشاله، واشغاله في معارك البدهيات التي تهدر الوقت والجهد والطاقة من جهة وفي محاولات ترميم العلاقات الأسريّة من جهة ثانيّة؛
• يسعى أولياء الأمور، في إطار التنشئة الاجتماعيّة، إلى مساعدة أبنائهم وبناتهم في بناء منظومة قيميّة رصينة، وتشكيل سلوكات مرغوب فيها، وصياغة أهداف الحاضر والمستقبل. إلّا أنّ مساعيهم قد تصطدم بصخرة العناد وعدم الرغبة في الإفادة من خبرات أولياء أمورهم؛
• أفضل أنواع التعلم هو الذي ينبني على أساس الانخراط في الأنشطة والبرامج والاعتبارات التربوية التي تندرج في إطار اهتمامات المتعلم/ المتعلمة، وتنسجم مع نمط التعلم لديه/ لديها. ها هو آينشتاين يثني على سلوكات ابنه هانز ويشجّعه على الاستمرار في تعلّم الموسيقى بالكيفية التي يريدها هو؛ إلى جانب ممارسة هوايته في أعمال النجارة. فهي قد تكون أكثر فائدة له من الأنشطة والبرامج المدرسيّة التقليديّة. هذا الكلام الذي ورد في رسالة آينشتاين قبل (90) عامًا تنسجم مع النظريات التربوية الحديثة التي تشير إلى أنّ فاعليّة البرامج والأنشطة التربوية تعتمد على مدى انسجامها مع قدرات المتعلم ونمط تعلمه واهتماماته ونمط تعبيره؛
• يمثل الأبناء والبنات امتدادًا لآبائهم وأمهاتهم، إلا أنّهم يحاولون باستمرار الخروج من الأطر التي تحاول تأطيرهم وصياغة مستقبلهم؛ فيختار الأبناء والبنات سبلاً أخرى للعيش والعمل والمستقبل. فالفيزيائي ألبرت آينشتاين لم يفلح في جذب ولديه إلى ميدان تخصصه وعمله؛ ويحزنه أنّه ليس في مقدوره أنْ يشرح أعظم أعماله وإنجازاته لابنائه؛ فهو منغمس في عالمه، وهم يعيشون في عالمهم الخاص؛
• للإبداع مقومات وشروط وكذلك معوقات، وهولا يتحقق من دون بنية معرفيّة قوية، وعلى عاتق منظومة التربيّة والتعليم توفير البرامج والأنشطة التي تنمي مهارات التفكير المنتج. حينذاك، يأتي دور الأسرة، ويتكامل مع دور المدرسة؛
• الإبداع الخاص ينبثق من الإبداع العام، والمجتمع المبدع هو الحاضنة المناسبة للموهوب والمبدع. ومن واجبنا العمل على بناء ثقافة الموهبة والإبداع والتميز؛ وإلا تغدو هذه المجتمعات طاردة للموهوبين والمبدعين.